من المواطنة زينب، إلى رئيس الجمهورية!
سيدي رئيس الجمهورية، أعلم جيداً أنك لم تسمع باسمي من قبل، ولم ترَني قط، ولكنني أعلم أيضاً أنك رئيس الجمهورية، والمسؤول الأول عن ما يحدث في هذا البلد، لذا قررت أن أرسل لك هذه الرسالة؛ وهي رسالة صادقة، تنقل لك قصة أسرة بسيطة من هذا الوطن، ليس على لسان المعارضة فتبالغ وتزيد أو تزايد، ولا على لسان الموالاة فتنقص وتخفي وتنكر، بل على لسان صدق، لا ينقص ولا يزيد، فكن لها من السامعين..
سيدي الرئيس،
أنا فتاة في الثامنة عشرة من عمري، وأنا ثالثة ثلاث بنات، ورابعنا أحمد (24 سنة)، أختايَ (مريم 15 سنة، وآمنة 12 سنة) فقدنا أبانا الكريم "عبد الله" قبل ثماني سنوات؛ عندما تعرضت سيارته لحادث سير على طريق "الأمل"؛ حيث توفي رفقة عمنا أخيه الوحيد أحمد في ذلك الحادث الأليم، ونحن يومها نشكل أسرة صغيرة ليس منا من قد بلغ سن الرشد بعد، فأكبرنا أحمد (شقيقي الوحيد) كان في ربيعه السادس عشر، وأما أصغر فرد في العائلة فهو أختي "آمنة" التي كانت في ربيعها الرابع، وكنتُ في العاشرة من عمري، وشقيقتي الوسطى "مريم" كانت في السابعة من عمرها.
كانت وفاة ذلك الأب الحنون الكريم بمثل الصاعقة التي ضربت بيتنا فجأة، دون سابق إنذار، فلم نكن نحسب ونحن صغار أن السوء يمكن أن يصيب والدنا، لجلالة ما نعظمه ونقدره فيه من مكانة، ولما كنا نرى فيه من مصدر للأمان والطمأنينة وضمان السعادة، لكننا تعلمنا منذ تلك اللحظة الأليمة أن الجبل على شدته يمكن أن يتهادى ويتصدع، وأن النخلة الباسقة، على كثرة ما أثمرت، يمكن أن تنحني وتذبل، بيد أن أملنا في كسب أبٍ ثانٍ ظل قائماً؛ لما زرعه والدنا الحنون من قيم الشهامة والمروءة والفروسية في شقيقنا أحمد.
يومها قرر أحمد أن يقطع دراسته، رغم تفوقه فيها، لكي يعمل مبكراً حتى يوفر لأمه وشقيقاته الثلاث عيشة كريمة تغنيهن عن صدقات الأقرباء، وفتات هدايا الشفقة، لكن أمي العزيزة رفضت قرار أحمد، وأصرت على أن يواصل دراسته براً بوالده الذي كان يبذل كل غالٍ ونفيس لضمان توفير ظروف الدراسة لابنه، فلم يكن أحمد ليخالف ما تأمره به والدته، فقرر يومها أن يجمع الحسنيين معاً؛ فيواصل دراسته ويعمل في أوقات فراغه بما تيسر وأفاد، وكانت والدتي تساعده بممارسة التجارة.
وهكذا مع الوقت استقرت أحوالنا مجدداً، فكان من يرانا لا يمكنه أن يعتقد أن عندنا مشاكل مادية من أي نوع ولا أن يلاحظ أننا فقدنا أبانا المعيل الوحيد لنا.. فاستقر حالنا هكذا حولين كاملين، ثم شارك أحمد في امتحان شهادة الباكلوريا العلمية (D)، فنجح متفوقاً فيها ليحصل على منحة دراسية إلى تونس، كان المعدل العام في الباكلوريا يسمح لأحمد بأن يختار التخصص الذي يريد، فاختار دراسة الطب؛ حيث طالما حدثنا أنه يحلم بأن يصبح طبيباً كبيراً، ليساعد الناس على الحياة بسعادة، ولينقذ ما وسِعه ذلك كل من صادفه من ضحايا حوادث السير خاصة، بعد أن كانت سبباً في فقده أباه.
كنا أيام السنة الدراسية الطويلة نفتقد أخوة أحمد في البيت، وأبوته خارجه حين يعود بثمرة عمله، فكان يعوض ذلك في الوضعية الجديدة بحرصه على تقسيم منحته الدراسية إلى نصفين، نصف يوفر به لنفسه أدنى وسائل الحياة في الغربة، ونصف نتلقاه في البيت ليساعد أمنا على توفير مستلزمات الحياة في المنزل.
هكذا مع الوقت تأقلمنا مع حياتنا الجديدة من دون أبينا، ومن وجود أحمد على بعد آلاف الأميال، فكنا نتناسى مأساتنا وحزننا كلما التقينا به من خلال خدمة "الواتساب" التي سهلت لنا التواصل معه، وكانت أسعد أيامنا عندما تقبل العطلة الصيفية؛ حيث يعود أحمد من الغربة، ليملأ بيتنا أخوة وأبوة، وسعادة وبهجة، وأمناً وطمأنينة..
سيدي الرئيس..
مع حلول العطلة الصيفية الجديدة، أي قبل زهاء شهر واحد من الآن، وصلتنا رسالة واتساب من أحمد يخبرنا فيها بقدومه يوم السبت، وبأنه سوف يواصل سفره براً نحونا في مساء اليوم نفسه..
هبطت الطائرة التي تقل أحمد بأمان في مطار نواكشوط الدولي "أم التونسي" فاتصل على والدتنا "عائشة" مطمئناً لنا على وصوله بسلام، كانت الساعة تشير إلى الخامسة عصراً، وبعدها بحوالي ساعة اتصل بنا مرة أخرى ليبشرنا ببدئه رحلة السفر البري إلينا عبر طريق "الأمل" في سيارة نقل عمومي..
كنتُ أنا ووالدتي نتناوب على الاتصال عليه كل عشر دقائق تقريباً للاطمنان عليه، وكان يرد علينا في كل مرة بنبرة مطمئنة "أنا بخير وصلت.. المكان كذا".. وكان آخر ما قاله لي في آخر اتصال بيننا أن أبشر شقيقتنا "مريم" بأنه يحمل لها هدية عبارة عن هاتف ذكي، كان قد وعدها به إذا تلوقت في امتحان التجاوز إلى السنة الرابعة من الإعدادية، وكان هذا خبراً سعيداً لا يضاهيه سعادة ومسرة بالنسبة لمريم سوى رؤية أحمد مجدداً في البيت..
مرت دقائق فأعدنا الاتصال بأحمد، لكن الهاتف هذه المرة كان يرن دون رد!!!
كنا نعيد الاتصال تلو الاتصال، ولكن من دون رد، بعد ذلك بحوالي ساعة إذا بالهاتف يرن،
- يا لها من فرحة، إنه اتصال من أحمد، فما إن رأيت رقمه حتى فرحت فرحاً شديداً، مجيبة قبل أن أسمع صوته "يا وني بخوي أنت امالك ما ترد على تلفونك"؟
- لكن صوت المتحدث معي من الجهة الأخرى لم يكن صوت أحمد، بل كان صوت شخص آخر قدّم نفسه على أنه "درَكي" وأخبرني أنه يريد الحديث مع والد صاحب الهاتف، أو أحد إخوته.
قاطعته فوراً: "خيراً؟ ما حدث لأحمد"؟ فلم يجبني، بل ألح علي في طلب الحديث مع والد أحمد أو أحد إخوته، فقلتُ له: "أنا أخته، أما والده فرحمة الله عليه، وليس له إخوة من الرجال"، وحينها أخبرني أن أحمد قد تعرض لحادث سير، وأنه موجود في مستشفى "حمد" في مدينة بوتلميت! وقطع الاتصال!
أعدت الاتصال به، وناشدته أن يطمئنني على حالة أحمد لكنه أبى أن يزيدني على كونه في المستشفى..
كنا في بادية تبعد مسافة 30 دقيقة في السيارة عن المدينة، فأسرعتُ مع أمي إلى الطريق المعبد بحثاً عن سيارة..
بعد دقائق، توقفت لنا سيارة يقودها رجل وقور، يبدو من شكله أنه رجل خير، فما إن ركبنا معه حتى لاحظ حالتنا النفسية الخانقة؛ فالقلق والحزن باديان من كلامنا، فسألنا وأخبرناه الخبر، فكان رجلاً كريماً، حاول أن يطمئننا ويحثنا على الصبر والتفاؤل، فأوصلنا على الفور للمستشفى، وما إن دخلنا حتى أبلغونا الخبر الثاني الأسوأ في حياتنا، لقد توفي أحمد!!! فسقطتُ مغشياً عليَ من هول الصدمة، ومن شدة الألم والحزن، فما زلتُ لا أنسى آخر كلمة سمعتها قبل أن أفقد وعيي؛ حيث صاحت أمي بكلمة "إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم فاشهد أننا قد رضينا بقضائك وقدرك فينا"!
رحل أحمد هكذا فجأة، بذات الطريقة التي رحل بها والده، قبل أن نراه مجدداً، وقبل أن يودعنا، وقبل أن يحقق حلمه الذي كان يحلم به..
سيدي الرئيس..
تلك هي قصة حياتنا باختصار، ونحن الآن لم نعد نريد شيئاً من هذه الحياة.. لم نعد نحلم بشيء، ولم نعد نرى في الحياة ما يستحق "الأمل"، فلقد فقدنا رغبة التشبث بها، وفقدنا كل أسباب السعادة والطمأنينة، ولم يعد لدينا من شيء نحيا لأجله سوى أن ندعو الله لأبينا وأخينا بالرحمة والمغفرة، وأن يجمعنا بهما في الجنة، مع زهدنا، رغماً عنا، في استمرار الحياة من بعد رحيل أحمد.
لكننا مع ذلك نحب الخير للناس، ولا نريد لأحد أن يعيش هذه المأساة التي عشناها، ولا أن يتألم كما تألمنا، لذلك نطلب منك -سيدي الرئيس- أن تفعل شيئاً، أي شيء، للحد من مثل هذه الحوادث الأليمة!
أنا لا أعرف ما ذا يجب عليك أن تفعل لتوقف هذه المآسي، لكنني أعرف أن عليك أن تفعل شيئاً ما، فافعله سيدي الرئيس، لتنقذ آخرين من هذا الحزن الذي أصابنا، فحوّل حياتنا من سعادة لا توصف إلى ألم لا ينقطع!
زينب (مواطنة)