عام. بلدنا في أزمة مزمنة، أزمة قيم وأخلاق، أزمة اجتماعية (تعليم، صحة، عمل) أزمة اقتصادية (زراعة، صناعة، تجارة، خدمات، بيئة)، أزمة في بنية الدولة (إدارة، حكم، آلية اتخاذ القرار)، والنتائج لا تكذب وهي واقع الحال.
الاعتراف بالأزمة في حد ذاته يمثل نصف الطريق في حل الأزمة ومن منطلقات محددة تكون الرؤية لتصور الحل ولنا في السنن الكونية وتجارب غيرنا خير معين وعبرة في تلمس الطريق الصحيح.
أسباب الأزمة: غياب ميزان العدل والإنصاف والارتجال واختلال الأسس والمعايير وعدم الانسجام مع القيم والأخلاق وتجاهل الأخذ بأسباب القوة هذه الأمور مجتمعة هي الأزمة بعينها.
التداعيات: الأوضاع في بلدنا تكاد تفصح عن نفسها في شكل من الأشكال، فتوالي الاحتجاجات أمام كل وزارة وفي كل زاوية وتتابع طوابير الهجرة خارج أسوار البلاد بحثا عن أمل وفرصة عمل وما يخيم على العالم العربي من غيوم بل وعلى دول كثيرة محورية وكبرى، لن تكون موريتانيا بمنأى عنه. كل ذلك يستوجب ضرورة الانكباب على ما يجب فعله وعلى ضرورة الإسراع إلى مخارج وحلول يراها الناس بعيدة من كثرة الوعود وهي قريبة.
الإصلاح: الإصلاح أفضل من الثورة، فمن سيقتنع بذلك من شباب اليوم الذي يعيش عالم التسارع ويتعايش مع المشاهد التي تولد في عقله ثقافة المقارنة ومن ثم الإحباط.
الإصلاح أفضل من الثورة، الإصلاح يأتي عن إرادة حرة وعن قناعة وتخطيط وعن مصلحين. الثورة في المقابل تأتي عنوة وفجأة وبدون رأس في العادة فيقودها الانتهازيون ويوجهونها، وهنا توشك الدولة أن تتفكك عرى وأشلاء، ذلك بأن الهدم أيسر من البنيان و"الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" حديث صحيح.
الإصلاح يرمم ما هو معطوب ويبني على ما هو موجود، بينما الثورة تطيح بكل شيء.
في ظل احتقان اجتماعي يتفاعل ويتخفى خلف حجب واقع صامت أو مجامل وبيئة تتفاعل مع المحيط القريب والبعيد، وفتن تطل برأسها شرقا وغربا لنا أن ندق ناقوس الحذر.
انتشال موريتانيا من أوضاعها المزرية التي تعيشها يتطلب جرعة من الضمير الحي والعزم والحزم. فبدون الإرادة السياسية الحرة يستحيل فعل شيء، اللهم إلا إذا تضاعفت الضغوط الشعبية وفاض الكيل، وهناك تضيق الخيارات ويكون الارتجال والتخبط سيد الموقف.
المطلوب. في ظل غياب وعود صادقة وضمانات بأن أوضاع المواطنين الاقتصادية والاجتماعية ستتحسن بعد اكتشاف الغاز بكميات هائلة والذي سبقه البترول فلم تتحسن الأوضاع وسبقه الذهب فلم تتحسن الأوضاع والنتيجة غياب الثقة بين الحاكم والمحكوم والأخطر من ذلك غياب الآمال في مستقبل واعد.
وحتى لا تجد البلاد نفسها في وضع محرج تصعب السيطرة عليه والخروج منه إلا بدفع أثمان لم تكن في الحسبان، يتوجب اتخاذ حزمة فورية من الإجراءات باستعادة الثقة المفقودة وإثبات المصداقية من خلال إقناع الشباب ومتوسطي الحال والفقراء الصابرين بأن الأمور تتحرك نحو الأحسن، استباقا واحترازا مما قد يقع في قادم الأيام استقراء، والعاقل من اتعظ بغيره، على أن تكون هذه الإجراءات الفورية قاعدة لمنطلقات يجب التأسيس عليها في مسيرة الإصلاح والتنمية.
حزمة الإجراءات الفورية
الإجراء الأول:
1. العمل وبشكل فوري على تخفيض سعر وقود السيارات الذي ارتفع يوما وقبل أكثر من عقد من الزمان بسبب الارتفاع المفاجئ لبرميل النفط من خمسين دولارا إلى 120 دولارا وعندما عاد سعر البرميل إلى وضعه الأول لم تتراجع عدادات المحطات إلى الوضع السابق، والنتيجة أن أسعار المواد الأساسية ظلت في تصاعد.
2. العمل على تخفيض أسعار المواد الغذائية الأساسية ومحاسبة مسوقي الأغذية الفاسدة ومنتهية الصلاحية.
ج. العمل على تخفيض أسعار المواد الدوائية ومحاسبة مسوقي الأدوية الفاسدة والمغشوشة.
د. العمل على تخفيض الرسوم العلاجية للعمليات الجراحية الصغرى (قيصرية، زائدة، مثانة، مرارة، غدد، ... الخ)، بحيث لا تتعدى العشرة آلاف أوقية قديمة.
هـ. توحيد سعر رسوم المعاينة الطبية بحيث لا تزيد عن ألف أوقية قديمة للطبيب المختص والطبيب العام.
و. تخفيض فاتورة الماء والكهرباء بما لا يقل عن 50% واستبدال العدادات الحالية بعدادات منزلية أكثر شفافية على طريقة تزويد الهاتف النقال.
ز. تخفيض أسعار مواد البناء في ظل غياب سياسة إسكان توفر السكن اللائق لمحدودي ومتوسطي الدخل بأسعار في المتناول.
ح. العمل على خلق فرص عمل جديدة للشباب والعاطلين عن العمل للتخفيف من حدة البطالة بتسهيل عمليات الإقراض الزراعي والتجاري والخدمي.
ط. العمل على رفع أجور متوسطي الحال فما دون ورفع سن التقاعد لكافة موظفي الدولة فإذا كان السقف الحالي منقولا عن فرنسا الاستعمارية فإن الأخيرة قد رفعت سن التقاعد مرات ومرات لأسباب اجتماعية ومطلبية واقتصادية ومنذ عقود.
ي. مراجعة المنظومة التعليمية بما يعيد للتعليم والهوية مكانتهما ويعيد للمؤسسة التعليمية هيبتها ومنزلتها.
ك. العمل على مضاعفة المنح الدراسية للطلاب في الدول الشقيقة والصديقة وفي العلوم التطبيقية خاصة استثمارا في التنمية البشرية وسدا للعجز الحاصل في حملة الشهادات العليا في المجال.
ل. إعادة فتح الجامعات والمعاهد الإسلامية المغلقة بغير وجه حق.
م. الضرب بيد من حديد على كل الطاعنين في ثوابت الدين والساعين في الأرض فسادا إذ السكوت عن مثل هؤلاء هو أول الفتنة "والفتنة أكبر من القتل" من الآية 217/ البقرة.
ن. عدم التهاون مع المتعدي على مقدرات البلاد المادية والمعنوية وإلا فهيبة الدولة في مهب الريح.
س. إعادة الروح لمبدأ استقلالية القضاء، فالعدل أساس الملك.
ع. فتح اعتماد استثماري (صندوق سيادي) لعائدات الغاز والبترول والذهب بما يحول دون نهب وهدر خيرات البلاد ويطمئن الشعب بأن النهب لن يتكرر.
ف. طرح جزء من أسهم شركات التعدين الكبرى وشركات البترول والغاز للبيع أمام المواطنين ليستفيد الشعب من خيرات البلاد وللحد من استحواذ المستثمر الأجنبي عليها بحيث تكون الأسهم الوطنية هي الغالبة.
ص. العودة إلى الجمعة كعطلة أسبوع فلكل أمة عطلها وأعيادها.
ق. التعامل مع القوى السياسية الموازية كشريك في الهم الوطني العام من باب التوافق.
الإجراء الثاني: العمل على الإلغاء التدريجي للضرائب تحفيزا للاقتصاد وتخفيفا عن كاهل الناس فقرائهم وأغنيائهم، فالفقراء هم من يدفع جل العائدات الضريبية بينما الأغنياء تؤخذ الضريبة من بعضهم مغلظة ويعفى منها البعض الآخر.
إلغاء الضرائب ستكون نقلة نوعية في الاقتصاد الموريتاني وإن كان من اسثناء فيجب أن يكون بالضرورة على السجائر والتبغ بأنواعه أو بما يستوجبه مبدأ المعاملة بالمثل، ويبقى المنع ساريا على المواد الضارة بالصحة العامة والمخربة للبيئة. علما بأن المكوس ليس لها أصل في الدين.
قد يقول قائل كيف سنعوض الخسارة الناتجة عن إلغاء الضرائب والجواب أن ما على ظهر الأرض من خيرات وما في باطنها من ثروات كفيل في جزء يسير منه بتعويض ما كان يجنى من ضرائب. هاهي لبنان تتهيأ لعرض ميزانيتها للعام 2020 دون ضرائب ورسوم، على شح مواردها.
الإجراء الثالث: الإلغاء الشامل والكامل لكافة المعاملات الربوية المصرفية والتجارية بشتى أنواعها، على مجموع التراب الوطني فقد فعلتها دول ولم يصبها مكروه بل عم فيها الخير وشملتها البركة.
"يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون" من الآية 277 إلى 279/ البقرة.
الإجراء الرابع: تأسيس صندوق للزكاة تقتطع فيه الزكوات من أموال الأغنياء لترد على مستحقيها من الفقراء وبما هو معلوم.
لكم أن تتصورا معي أن أحد أثرياء البلد الذي تصل ثروته إلى ألف مليار أوقية قديمة كم سيستفيد من فقير ومسكين من وراء ما يترتب عليه دفعه من الزكاة سنويا إن كانت النسبة ستصل 2.5% من ثروته. ما سيدفعه سيصل 25 مليار أوقية قديمة وإذا كان العدد المماثل لهذه الفئة يزيد عن أصابع اليد الخمسة إضافة إلى من هم دونهم ومن هم دون هؤلاء، فكم سيتغير حال الناس حين يعم الوئام الاجتماعي والتكافل والتعاضد والإيثار وفعل الخيرات قال تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" من الآية 39/ سبأ.
وكم ستنمو ثروات الأغنياء وبما يفوق الخيال "يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار اثيم" الآية 276/ البقرة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال أدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، الحديث 1395/ صحيح البخاري.
لقد توعد الله سبحانه وتعالى مانعي الزكاة بالعذاب الأليم.
"الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" الآية 34-35/ التوبة.
الخلاصة: ونحن على أبواب ذكرى الاستقلال عن فرنسا للعام التاسع والخمسين فإن أحسن هدية يمكن أن ندخل بها السرور على قلوب أبناء شعنا الطيب هو البدء بالإصلاح المبني على رؤية تنطلق من الهوية والثوابت وتراعي الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتتماشى مع التطلعات والآمال في غد مشرق ومبشر.
(المنطلقات ..... يتبع)
انواكشوط بتاريخ : 26 ربيع الأول 1441 هـــ
الموافق 23 نوفمبر 2019 م
*ـ عقيد متقاعد
من مواليد مدينة أطار
المؤهلات العلمية:
باكلوريا وطنية
ليسانس حضارة وإعلام ـ المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية
بكالوريوس علوم عسكرية ـ جامعة مؤتة الأردنية
ماجستير علوم عسكرية وإدارية ـ جامعة مؤتة الأردنية
ماجستير علوم إستراتيجية ـ أكاديمية ناصر العسكرية العليا ـ مصر
3